علي حمود
موازين قوى رفضت السلطة السياسية أن تعترف بها. لا بل استمرت في السياسات الاقتصادية عينها التي تخدم مصالح الاوليغارشيا وأصحاب المصارف، ما أدى إلى إفقار ٨٠% من عمال لبنان وإيصال البلاد المنهارة الى حافة الجوع.
لقد رفضت السلطة السياسية أن تعترف بمسؤليتها عن الانهيار الاقتصادي، ورفضت أن تحاسب المسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت. كما رفضت أن تقر الخطط الإصلاحية التي توقف الهدر المالي لخزينة الدولة، وأن تعيد إطلاق عجلة الاقتصاد وتسييره نحو الإنتاج.
لقد اعتقدت المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان أن حالة تراجع الزخم الثوري للشارع ستسمح لها باعادة إنتاج النظام، وبالحفاظ على مكتسباتها ومصالحها؛ لذلك كانت تحضيراتها للانتخابات النيابية مليئة بخطابات التأكيد على السياسات السابقة، وإظهار إحصائات لشركات مدفوعة الأجر أرقامها مفبركة عن النتائج المتوقعة للانتخابات النيابية، لإحباط أي محاولة لتشكيل لوائح قادرة على مواجهة المنظومة الحاكمة والنظام السياسي الطوائفي.
لقد واكبنا منذ أشهر التحضير للانتخابات النيابية، وكنا نستطلع آراء الناس وحجم الاحتقان والرفض للوائح السلطة التقليدية. ومع اقتراب الاستحقاق وإعلان لوائح السلطة، كان من الواضح التزاوج بين أقطاب المنظومة المالية والطائفية والمليشيوية. ففي الدوائر الانتخابية التي يسيطر عليها حزب الله، كان متحالفاً مع أعتى الفاسدين ومع أصحاب المصارف وأعطاهم أماكن على لوائحه كي يحصلوا على الحصانة النيابية كالمرشح مروان خير الدين. أما لوائح الجهة الأخرى من المنظومة كالقوات والكتائب، فكانت ممولة من أحد قادة مافيا المصارف في لبنان، أنطون الصحناوي، ومن رئيس جمعية المصارف، سليم صفير، ومدعومة بالمال السعودي ومن الإدارة الأمريكية. وكان اعتراف مسؤول الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر عن حجم التمويل الكبير تاكيداً على ذلك.
كان من الواضح أن لهذه المعركة طابعاً سياسياً وطبقياً في وجه تحالف الأوليغارشيا، وأن المجتمع والطبقة العاملة يُعَبّآن تلقائياً لخوضها؛ لذلك كان لا بد لنا أن نتراجع عن خيار الدعوة للمقاطعة، وأن نكون جزءاً من الانتخابات عبر المساهمة في دعم اللوائح الاعتراضية التي تطرح مشروعاً للتغيير يتوافق مع طروحاتنا (مثل لوائح قادرين لحركة مواطنون ومواطنات في دولة)، أو على الحد الأدنى من الطروحات. ولم يكن في بالنا أن الخروقات ستتجاوز 5 إلى 6 مقاعد في أفضل تقدير. إلا أن نتائج اقتراع المغتربين التي كانت واضحة برفضها للوائح السلطة، شجعت الكثيرين على الانخراط واقتراع اللوائح التغييرية خاصةً وأن المجلس النيابي القادم سيكون أمام امتحان كبير، حيث يجب أن يواجه بشراسة محاولات المنظومة تمرير قانون الكابيتال كونترول المشوه الموجود في المجلس النيابي. كما عليه إلغاء قانون السرية المصرفية، وطرح قانون إعادة هيكلة المصارف المفترض إقراره بحسب خطة التعافي المالي والاقتصادي، ودور حاكميّة المصرف المركزي وشفافيّة أرقامه.
لقد كانت نتائج انتخابات ١٥ أيار تاريخية، حيث استطعنا بامكانيات بسيطة ومحدودة مواجهة أباطرة المال والمليشيات الطائفية المسلحة. كذلك أسقطنا الناطق باسم تحالف المصارف في المجلس النيابي ايلي الفرزلي، وأسقطنا مدير عام مصرف الموارد مروان خير الدين، والكثير غيرهم من الأساسيين في التركيبة الحاكمة. وقد وصل عدد الخروقات إلى ضعفي ما كان متوقعاً. ولكن أهم ما تحقق هو:
أولا: تثبيت أن حجم الاعتراض الشعبي والرفض لأحزاب المنظومة كبير جداً.
ثانيا: هناك جهوزية للطبقة العاملة ولفئات شعبية واسعة للانخراط في المعركة السياسية، وهذا ترجمة لتراكمات من التغيرات لدى المجتمع.
ثالثاً: تثبيت فكرة إمكانية كسر السلطة في معاقلها وفتح ثغرة جديدة في النظام يمكن أن تؤدي لزيادة حجم الخروقات في المستوى السياسي مستقبلاً.
لم تستطع المنظومة الحاكمة حتى الآن استيعاب ما جرى وكيف تم تحصيل هذه الأرقام الكبيرة وحصول هذا الخرق. وأطلق رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد في أول تصريح له، تهديداً واضحاً لكل اللبنانيين حيث قال إن من يرفض التعاون معنا والانضمام إلى حكومة مشتركة، يقود البلاد إلى الهاوية وإلى حرب أهلية. وهذا التهديد الصريح من الطرف الأقوى في البلاد يوضح حجم الصدمة عند المنظومة الحاكمة، لأن توازنات المجلس النيابي الحالي لم تعطِ الأكثرية لأي طرف من أطراف السلطة، واحتمالية الفراغ الحكومي والرئاسي مرتفعة جداً.
لقد دخل لبنان في مرحلة جديدة ستعود فيها لترتفع أصوات المطالبين بالتغيير السياسي، وتعود فيها حركة الشارع إلى زخمها تدريجياً. إن مسار المواجهة التصاعدي مستمر نحو مزيد من التراكم وبناء القوة لتخطي هذا النظام السياسي، من دون إعطاء الفرص للمليشيات والطائفيين والأوليغارشيا بجر البلاد نحو الاقتتال والاحتراب.