من الفراغ الحكومي إلى الفراغ الرئاسي

علي حمود

أعادت قوى المنظومة تسمية نجيب ميقاتي، أعتى الفاسدين وناهبي المال العام، لرئاسة الحكومة اللبنانية في مرحلة تعدّ من أصعب المراحل التي تمر بها البلاد. فالانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان، ثالث أكبر انهيار في الـ ١٥٠ سنة الاخيرة. تسمية ميقاتي جاءت استكمالاً لحالة المراوحة والتعطيل لكل الخطط والمحاولات للبدء بإجرائات الخروج من الأزمة. فكل الأطراف التي سمته كانت على علم مسبق باستحالة تشكيله لحكومة جديدة في ظل التوازنات التي أفرزتها الانتخابات النيابية .

لم يشكل نجيب ميقاتي حكومة وهو يستمر بتصريف أعمال حكومته السابقة بانتظار الاتفاق على تقسيم الحصص الوزارية، وفي حال تعذر ذلك سيستمر الفراغ الحكومي في لبنان إلى ما بعد اتنتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي، والذي سيغادر قصر بعبدا من دون انتخاب بديل له لصعوبات داخلية وخارجية. فانتخاب رئيس في لبنان يحتاج إلى تفاهم أمريكي وايراني وسعودي وسوري… وهذا التفاهم مرتبط بصراعات المنطقة، من الملف النووي الايراني إلى الحرب السورية وترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي.

إن الفراغ الحكومي الحالي والرئاسي المتوقع قد يستمر لعدة أشهر، لحين انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان المكلف من المنظومة الحاكمة بمتابعة وأخذ القرارات بكل الشؤون المالية والاقتصادية. فالفراغ في موقع الحاكم هو نهاية مرحلة حكم فيها رياض سلامة الاقتصاد اللبناني بعمليات البونزي والهدر والسرقة وتوزيع المال العام على الطوائف ومديريها، نهاية مرحلة كانت فيها حاكمية مصرف لبنان هي ضامن مصالح أقطاب المنظومة وحامية لثرواتهم.

إن الفراغ المتوقع سيطال كل المؤسسات الرئيسية، وهو نموذج عن تفكك الدولة اللبنانية في ظل تنامي قوة الأحزاب الطائفية ومليشياتها المسلحة، مما يفتح البلاد أمام صدامات طائفية جديدة وانهيار أكبر للعملة الوطنية أمام الدولار الأمريكي .

ترسيم الحدود مع العدو خيانة جديدة

لطالما كان النظام السياسي الطائفي يفرّط بمصالح الشعب اللبناني لصالح الخارج، ولطالما قدم التنازلات على حساب أحلام وطموح عمال وفقراء لبنان. من التبعية للفرنسي والأمريكي إلى السوري والسعودي والإيراني، واليوم يقدم التنازل الأكبر لصالح العدو الصهيوني الذي لا يزال يحتل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقرى السبع. هذا العدو المحتل لأرضنا أصبح اليوم على بعد خطوات صغيرة من سرقة ثروتنا الغازية والنفطية بتواطؤ ورضا المنظومة الحاكمة. فقد بدأ العدو بالتنقيب عن الغاز في حقل كاريش عند الخط ٢٩ الذي يمثل آخر نقطة في الحدود البحرية اللبنانية، والتي تقع فوق الحقل المذكور.

لقد رفض رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب الاعتراف بخط ٢٩ كجزء من الحدود البحرية اللبنانية، ورفضوا كل الدراسات التي قدمها الجيش اللبناني والخبراء التي تؤكد حق لبنان به. كما أسقط نواب المنظومة اقتراح قانون في المجلس النيابي يثبت حق لبنان في الخط ٢٩. وتعمّد رئيس الجمهورية اللبنانية المماطلة ورفض التوقيع على مرسوم دستوري يعتبر النقطة ٢٩ جزء من الحدود البحرية اللبنانية، كي يتم ايداعه في الامم المتحدة لتثبيت أحقية لبنان في ثروته. واستمر بالتمسك بالخط 23، مما حسم نتائج التفاوض غير المباشر (وبوجود الراعي الأمريكي غير الحيادي) إلى مصلحة العدو الصهيوني، مما أضاع مئات الكيلومترات من المياه الاقتصادية اللبنانية.

انتظرت المنظومة الحاكمة أشهراً ليعطف عليهم المفاوض الأمريكي ببعض الكيلومترات الإضافية كي يخرجوا على اللبنانيين بإنجاز وهمي، إلا أن الجميع يعلم حقيقة ما كان يجري على مدى ٢٠ شهراً، وهو خوف هذه السلطة التابعة من العقوبات الأمريكية ومحاولتها تقديم الطاعة بهدف إزالة أسماء سياسيين أساسيين من المنظومة الحاكمة عن لائحة العقوبات مثل : جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية، وعلي حسن خليل الرجل الثاني في حركة أمل حزب رئيس مجلس النواب.

لقد سبق وأعلنّا أن السلطة السياسية الفاقدة لأدنى حس المسؤولية تجاه القضايا الاجتماعية والاقتصادية، لا يمكن أن تكون أكثر حرصاً في القضايا الوطنية. والآن نقول إن من تخلّى عن دوره بحماية أرضه وشعبه، لا يمكن أن توضع الثقة فيه كي يفاوض الأمريكي والإسرائيلي، وإن نتيجة التفاوض غير المباشر كانت خيانة وطنية مارستها المنظومة الحاكم.

من قاع الأزمة لا نزال نواجه

يدفع اللبنانيون ثمن الأزمة التي أنتجتها السلطة السياسية فقراً وبطالة وفقداناً لمقومات الحياة. فمن طوابير المحروقات إلى طوابير الأفران، ومن السوق السوداء للدولار إلى السوق السوداء للدواء وحتى الرغيف، تدهورت القدرة الشرائية لللبنانيين فيما بات الحد الأدنى للاجور يعادل ٢٣ دولاراً شهريّاً. إن تراجع دخل اللبناني وعدم قدرته على تأمين قوته اليومي، وحرمانه من أدنى حقوقه وحجز ودائعه في المصارف أنهكه وأفقده القدرة على التحمل. كما أن أزمة القطاع الصحي أضحت تهدد حياة مئات المرضى غير القادرين على تأمين ما يلزمهم من أدوية، وخاصةً المتعلقة بالأمراض المزمنة كالضغط والسكري والخطيرة كالسرطان. كما أن قطاع التعليم ناله نصيب كبير من الأزمة وانعكاساتها السليبة. فمع ازدياد نسب الفقر، لم يعد بمقدور عدد كبير من الأهالي إلحاق أولادهم في الجامعات أو المدارس .

إن العمال والفقراء في لبنان يدفعون ثمن الانهيار حيث يتوسّع الفقر أفقيًا، فيشمل فئات اجتماعية جديدة وتنحدر شرائح من الطبقات الوسطى إلى مصاف الفقراء. في الوقت عينه، يتعمّق الفقر رأسيًا، أي تتدهور معيشة الأسر إلى مستويات أدنى من السابق. إن التحولات التي مر بها لبنان تتجاوز مسألة الإفقار واللامساواة بالمعنى التقني، من حيث الاتساع والعمق، ومن حيث التلازم بين الأبعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية. فهي مرحلة تأزّم شامل للدولة وللنظام برمته. ويتطلب تجاوز هذه الأزمة مسارًا يبدأ من البعد المجتمعي وصولاً إلى البعد السياسي وذلك بعد فشل انتفاضة ١٧ تشرين في تحقيق أهدافها.

كتب لينين بعد ثورة ١٩٠٥ أن أخطر ما يمكن أن نقع فيه هو إنكار الهزيمة. في لبنان، علينا أن نعي أن الانتفاضة فشلت في تحقيق أهدافها وأن دورنا كماركسيين ليس محاولة بعثها من جديد، بل تفكيك وفهم أسباب الهزيمة والفشل ومعالجتها. لقد كثرت المقالات التي تتحدث عن انكفاء الجماهير عن الشارع والتي تحاول التنبؤ بموعد عودتها من دون ان تبحث في شروط الثورة: الظرف الموضوعي والذاتي. يجب أن نعي أن الأزمات الاقتصادية ليست كافية في حد ذاتها للقيام بثورة وخاصة في ظل تداخل أزمات الإقليم مع الداخل. ولقد سبق لتروتسكي أن أشار إلى أنه لو كان الفقر سبب الثورات لكانت الجماهير دائما في حالة ثورة .

إن التغيير في لبنان لا يحتاج إلى تظاهرات مليونية يومية أو أسبوعية. إننا نختلف بالرآي مع التنظيمات والمجموعات اليسارية التي تضع كل جهدها في دعوة الناس إلى التظاهر. فالتغيير في لبنان يحتاج إلى قوة منظمة، قوة تنظم العمال والشباب والنساء والمثليين واللاجئين وتساهم في خلق أطرهم النضالية الديمقراطية وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم، قوة سياسية منظمة تطرح الشعار السياسي الصحيح انطلاقاً من راهنيته. لقد كان لغياب الحزب الثوري أثره الكبير على فشل الانتفاضة الشعبية، حيث لم تستطع الطبقة العاملة والفئات الشعبية الأكثر فقراً من التعبير عن مصالحها.

كتب ماركس في مراسلاته أن أخطر ما يمكن أن نقع فيه هو الاقتناع بالهزيمة. علينا أن نعي أن كل هزيمة هي هزيمة مؤقتة، وأن الاستمرار بالعمل النضالي كفيل بتخطي كل الأزمات.
إن انتفاضة ١٧ تشرين جزء من مسار ثوري بدء في عام ٢٠١١ ومن ثم ٢٠١٥ وصولاً الى ٢٠١٩، وفي كل مرحلة من المد والجذر الثوري تتطور الأطر النضالية ويزداد خطابها جذرية.
إن مهمتنا الأساسية في لبنان في هذه المرحلة هي بناء الأطر النضالية وصولاً إلى تأسيس الحزب الثوري. حزب مكتمل العناصر النضالية، الأيديولوجية، السياسية والتنظيمية. حزب قادر على بناء الكتلة التاريخية، حزب لديه أفق أممي يتكامل معه بالنضال في وجه الامبريالية والرأسمالية العالمية.